الحلقة الأولى
جواز السفر كما هو معلوم هو الوثيقة التي يسافر بها المواطنون لخارج بلدهم قاصدين بلدانا أجنبية أخرى بعد حصولهم على تأشيرة من السفارات أو القنصليات تسمح بدخولهم لتلك البلدان . و في سنوات السبعينيات من القرن الماضي كان الحصول على جواز سفر ليس بالأمر السهل في عدد من الدول العربية و سورية كانت في مقدمتها فلابد من الحصول على موافقة شعبة التجنيد و الأجهزة الأمنية أولا حتى تصدر إدارة الهجرة و الجوازات جواز السفر لطالبه. بدأت علاقتي الأولى مع هذه الوثيقة صيف عام 1971 حين حاولت الحصول على جواز سفر من حلب لما كنت أدرس بالعراق و كان حينها السفر للعراق لا يحتاج لجواز سفر و كانت البطاقة الوطنية { الهوية } كافية لكنني أردت الحصول على جواز سفر لزيارة مصر . كانت الإجراءات معقدة رغم أنني أدرس خارج سورية و تحت الإشراف أي معي موافقة وزارة التعليم العالي بدمشق و كذلك موافقة شعبة التجنيد فكان لابد من وجود كفيل يضمن رجوعي للوطن بعد إنتهاء دراستي فتطوع أحد الأقارب جزاه الله خيرا من المسجلين في غرفة التجارة بتقديم الكفالة و كان مقدارها خمسمئة ليرة سورية و حصلت على جواز سفر خيب لي أملي فقد كانت مدة صلاحيته لستة أشهر فقط و لم أستطع إستخدامه لأن تلك الفترة لم تكن مناسبة لتحقيق فكرة زيارة مصر فلم أنتفع من ذلك الجواز . و في منتصف عام 1972 إقترح علي الصديق مروان الغوري الذي كان يدرس معنا في الموصل بأن يستخرج لي جواز سفر من السفارة ببغداد و قال أنه يستطيع القيام بذلك نظرا لمعرفته بشخص هناك فأعطيته ما يلزم من الأوراق المطلوبة و بالفعل تمكن من إحضار جواز سفر صالح لمدة سنتين و كان هذا الجواز هو الذي مكنني من الإنتقال من شرق الوطن العربي إلى أقصى غربه و كان لي بمثابة حبل النجاة الذي غير طريقي الدراسي و مقر سكن بقية حياتي . حين وصلت المغرب تسجلت بكلية الحقوق و قمت بالتسجيل القنصلي في السفارة السورية بالرباط كما هو مطلوب من المواطنين الذين يقطنون ببلد أجنبي و من حسن الحظ أن السكرتير الأول بالسفارة كان زميلا لي بالكلية و لم يكن يستطيع حضور المحاضرات فكنت أمر لعنده كل يوم ثلاثاء و أعطيه المقررات و أخبره عن الدروس و ما هو مطلوب منا . هذه العلاقة ساعدتني على تجديد جواز السفر لمدة سنتين دون الحصول على الموافقات اللازمة من الدوائر الأمنية في سورية , و لي مع هذا الزميل الدبلوماسي قصه عجيبة غريبة سوف تكون موضوع مقال آخر في وقت لاحق إن شاء الله . أكملت دراستي و حصلت على الإجازة بالعلوم السياسية ثم قررت السفر للولايات المتحدة و قدمت على طلب التأشيرة بعد أن أرفقت الطلب بالقبول من الجامعة مع عدد من الأوراق المطلوبة الأخرى و جاء الرد برفض منحي التأشيرة لأن مدة صلاحية جواز السفر تقل عن الستة الأشهر و طلبوا مني تجديد الجواز و حسبوا أن ذلك أمرا سهلا . كانت علاقتي حينها متوترة مع السفارة بسبب نشاطي السياسي و إتهامي بالقيام بحملة دعائية ضد حزب البعث في الجامعة بالرباط كما ذكرت في مقال سابق فكيف أستطيع تجديد الجوازبعد حدوث صدام حاد مع القنصل الجديد الضابط العسكري المبعد عن البلد و هو الذي أذل مدينة حلب و أهلها لما كان رائدا في الشرطة العسكرية و صاحبه الرائد بدر جمعة في عهد الرئيس أمين الحافظ و هو السيد يوسف عرفي الحاد المزاج و أصوله من مدينة دير الزور فقد وصلت أصواتنا في الحوار لعنان السماء أثناء إحدى زيارتي له في مكتبه و كدنا نشتبك بالأيادي لأنه تكلم معي بطريقة إستفزازية . . شعرت حينها أن فكرة سفري لأمريكا صارت في مهب الريح لأن السيد يوسف عرفي لن ينسى لي ما قلته له من كلام جارح . و حيث أن ألطاف الله كانت تحيط بي فقد قابلت بالصدفة الدكتور ممدوح حقي الدمشقي الأصيل الكيس الدمث صاحب الروح المرحة و الشخصية المحبوبة و كان يعمل في إحدى المنظمات التابعة لجامعة الدول العربية بالرباط و خطر على بالي أن أطرق بابه و أطلب عونه بالتوسط لي عند صاحبه القنصل يوسف عرفي و شرحت ما حصل بيني و بينه من خصام فقال لي أنه سيتصل به و يطلب منه مساعدتي و تم ذلك فورا و تكلم مع أبي كندة كما كان يعجب يوسف عرفي بأن يكنى وقال له إن لي إبنا عزيزا علي إسمه عبدالباسط البيك له عندك غرض فأرجو منك أن تساعده فمتى يمكنه أن يزورك بمكتبك بالسفارة فحدد لي موعدا مع الساعة الثانية عشرة ظهرا في اليوم التالي و قدم لي الدكتور حقي رحمه الله نصيحة في إسلوب التعامل مع يوسف عرفي صاحب الشخصية الحادة المزاج . وصلت لمبني السفارة مع الثانية عشرة تماما و إستقبلني القنصل بمكتبه و طلب مني الجلوس و كان منشغلا عني بالكتابة لكنه ينظر إلى شزرا من حين لحين و كنت أحوقل و أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم و أقرأ آية الكرسي في ساعة الشدة كما علمتني والدتي رحمها الله . لم يتكلم معي على الإطلاق حتى الساعة الثانية و أنا جالس في وضعية عسكري إنتباه ثم نظر إلى ساعته و قال إنتهى الدوام إرجع غدا مع الثانية عشرة أيضا و هكذا فعلت . و فعل معي في اليوم الثاني كما فعل باليوم الأول و أبقاني جالسا تحت الضغط النفسي لمدة ساعتين ثم قال لي تعال غدا مع الساعة الثانية عشرة ظهرا . إتصلت بالدكتور حقي و أعلمته بما جرى فقال لي إرجع إليه و إضبط أعصابك و هذا دليل على أنه سوف يساعدك و إلا كان قد إعتذر من أول لقاء . و في اليوم الثالث بدأت عملية الأخذ و الرد عن سبب سفري و تمويل دراستي و ماذا سأدرس و قال لي إن إسمك عندي بالدفتر و كان هذا القول يشعرني بالخطر فقلت له ربما إسم أخي فأكد أنه إسمي و ليس إسم أحد آخر فتعوذت بالله و شعرت أن طلبي بات ميؤوسا منه . و فجأة غير نظرته و قال لي هات الجواز لأشوف فأعطيته الجواز فقال أنه سيخالف القانون كرمال توصية الدكتور ممدوح حقي و سأجدد لي الجواز و هكذا فعل بعد ثلاثة جلسات أرهقني بها نفسيا . خرجت من السفارة و أنا أطير محلقا في سماء الفرحة و ذهبت لأقرب هاتف عمومي و أبلغت الدكتور حقي بتحقيق المراد و شكرته من أعماق قلبي فقد كان عونه لي بداية السير على طريق نحو تحقيق رغبتي بالدراسة في أمريكا ذلك الحلم الذي كان يراودني من أيام الطفولة . وصلت لأمريكا و بدأت الدراسة الجامعية و هاجس تجديد الجواز يلاحقني فكيف أجدده حين إنتهاء فترة صلاحيته و من الذي سيقف عونا لي في السفارة بواشنطن فقررت ان أزور السفارة مبكرا لإستطلاع الوضع و شعرت كما كتبت في مقال آخر أن سمعتي العطرة وصلت للسفارة و أشعرني القنصل بانه يعرف أخباري فأصابني الإحباط فطلبت إستشارة البروفيسور المشرف علي و كان أمريكيا من أصول كورية فقدم لي رأيه الإستشاري الذي طبقته فقلب لي مسيرة حياتي و غير خط سيري كما سنرى في الحلقة المقبلة قريبا إن شاء الله . عبدالباسط